المنهجية في طلب العلم

نهج الدّعاة

  • الشيخ أ.د. عبد العظيم بدوي الشيخ أ.د. عبد العظيم بدوي
  • 30/10/2022
  • 359
نهج الدّعاة

﴿ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ (1).

   هذه الآية قد تضمنت على وجازتها دستور الدعوة إلى الله عز وجل، ولذلك قال الفخر الرازي بعد أن ذكر مباحثها :

«واعلم أن هذه المباحث تدل على أنه في هذه الآية الكريمة هذه الأسرار العالية الشريفة، مع أنَّ اكثرَ الخَلق كانوا غافلينَ عنها ، فظهر أن هذا الكتاب الكريم لا يهتدي إلى ما فيه من الأسرار، إلا مَنْ كان من خواصِّ أولي الأبصار» (2).

والمباحث التي في هذه الآية هي :

  ماهي الدعوة ؟؟ وما فضلها؟؟ وما حكمها؟ إلامَ تكون؟ وسائلها؟

أما الدعوة فهي لغة: مأخوذة من الدعاء، وهو النداء لجمع الناس على أمر ما، وحثّهم على العمل له، قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَىٰ دَارِ السَّلَامِ (3).

    والدعوة في اصطلاح العلماء : جمع الناس على الخير ودلالتهم على الرشد بأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، قال تعالى: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (4).

   والدعوة إلى الله تعالى وظيفة المصطفين الأخيار من النبيين وأتباعهم المؤمنين، قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي...﴾ (5).

   وفضل الدعوة عظيم ، قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ (6) ففي هذه الآية التنبيه على شرف الدعاة والثناء عليهم ، وبيان أنهم أحسن الناس قولاً، لأنهم يدعون الناس إلى الله، ويرشدونهم إلى اتباع الحق واجتناب الباطل، وفعل الخير وترك المنكر.

     وقال النبي صلى الله عليه وسلم: « من دل على خير فله مثل أجر فاعله»(7)

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من دعا إلى هدى كان له مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً»(8)،

ويوم خيبر أعطى النبي صلى الله عليه وسلم الراية لعليّ، وقال له: «انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حقّ الله تعالى، فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً، خيرُ لك من حُمْرِ النَّعَم»(9).

    فتخيل أيها المسلم! عظمة الذي يأتيك من الأجر! فكيف لو هدى الله على يديك ملايين؟ فهنيئاً لك أيها الداعية هذا الخير العظيم، فكيف تنشغل أيها المسلم عن الدعوة إلى الله وتترك هذا الخير العظيم ؟! أما علمت أنك حين تنشغل بالدعوة إلى الله تنام ويأتيك أجر، وتموت ويأتيك أجر؟! أفلا يحملك هذا الفضل ألا تدخر وسعاً، ولا تألوَ جهداً إلا بذلته في الدعوة؟

    ألا يحملك هذا الفضل العظيم أن تدعو الناس سراً وجهاراً، وليلاً ونهاراً، طمعاً في هذا الأجر العظيم الذي هو خير لك من الدنيا وما فيها؟؛

أنسيت قول الله تعالى: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾(10)، وأي فضل عليك أعظم من أن يصطفيك الله، ويجتبيك للعمل في الدعوة إليه؟! أما تعلم أن هذا العمل عمل المرسلين الذين اصطفاهم الله من خلقه، وعمل المصطفين من أتباعهم ؟! فكما اصطفى الله الأنبياء لهذا الواجب، اصطفى من جملة الأتباع من يقوم بهذا الواجب أيضاً، إنك والله لو عقلت لبكيت على عدم كونك من الدعاة، لأنك لست من المصطفَيْنَ، لذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من يردِ الله به خيراً يفقهه في الدين»(11) ففُهِم منه أن من لم يتفقّه في الدين لم يردِ الله به خيراً، فكيف بمن تفقه في الدين وفقّه الناس فيه؟ كيف بمن تعلّم وعلّم؟ إنّه والله لمغبوط، كما قال صلى الله عليه وسلّم: «لا حسد إلا في اثْنَتَيْنِ : رجلٌ آتاه الله مالاً، فسلّطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة، فهو يقضي بها ويعلّمها»(12)

ثم اعلم يا عبدالله! أنَّ الدّعوةَ إلى الله عزّ وجلّ من فروض الدّين، وواجباته الكفائية، التي تجب على عموم الأمة، فإنْ قام بها من يكفي سقط الإثم عن الباقين، وإن اتَّفقوا على تركها، أو قام بها من لم يَكْفِ قيامُه بها أثِموا جميعاً، قالَ تعالى: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ (13).

  وقال تعالى: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (14).

  وإنما لُعن بنو إسرائيل، وطُرِدوا من رحمةِ الله، وباءوا بغضبٍ من الله، بتركهم القيام بواجب الدعوة إلى الله، قال تعالى: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ (15).

  ولذا حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الاتفاق على ترك القـيام بـواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال صلى الله عليه وسلم: «مثل القائم في حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فصار بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، وكان الذين في أسفلها إذا استقوا الماء مرّوا على من فوقهم، فقالوا: لو أنّا خرقنا في نصيبنا خَرْقاً، ولم نُؤْذِ مَن فَوْقَنا، فإنْ تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً». (16)

  وقال ابو بكر رضي الله عنه: يا أيها الناس! إِنكم تقرؤن هذه الآية ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ ۖ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾ (17) وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: «إنّ الناس إذا رأوا الظالم، فلم يأخذوا على يديه، أوشك أن يعمّهم الله بعقابٍ منه» . (18)

  فالدعوة إلى الله من فروض الكفاية إذا قام بها من يكفي حاجة الناس إليها،

  فإذا كان بالناس حاجة، ولم يَكْفِ القائمون بالدعوة حاجتهم، لم يسقط الواجب عن الأمة، وتعين على كل من يقوى على النهوض بهذا الواجب أن ينهض به.

  وقد تتعيّن الدَّعوة على شخص أو أشخاص في مكان لا يوجد غيرهم يدعو إلى الله على بصيرة، فيتعيَّن عليهم أن يقوموا بهذا الواجب، وإلا أثِموا أجمعون.

  وهذه هي الدَّعوة، وفضلها، وحكمها.

  أمّا إِلامَ تكون؟ فإنَّ الله تعالى قال في هذه الآية: ﴿ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ﴾، وقال في آية أخرى: ﴿وَادْعُ إِلَىٰ رَبِّكَ﴾ (19)، ووصف النبي صلى الله عليه وسلم بكونه ﴿وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ﴾ (20) وأمره أن يصدع بذلك، فقال: ﴿قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ﴾ (21)، وقال له: ﴿وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ (22).

   فالدعوة لا تكون إلا إلى الله، وإلى سبيل الله، وإلى صراط الله، ولا تجوز الدعوة إلى سبيل فلان أو طريق فلان، ولا إلى مذهب فلان، ولا إلى رأي فلان، ولا تجوز الدعوة إلى حزبٍ، أو تنظيمٍ، أو جماعةٍ، بل يجب أن تكون الدعوة إلى الله مَحضةً، وإلى سبيل الله خالصةً.

  قال ابن تيمية - رحمه الله - : «أمر الله سبحانه نبيه بالدعوة إلى الله تارة، وتارة بالدعوة إلى سبيله، وذلك أنه قد عُلم أن الداعي الذي يدعو غيره إلى أمر لا بد فيما يدعو إليه من أمرين:

 الأول: المقصود المراد.

والثاني: الوسيلة والطريق الموصلة إلى المقصود . فلهذا يذكر الدعوة تارة إلى الله، وتارة إلى سبيله، فإنه سبحانه هو المقصود المراد بالدعوة .

  فالدعوة إلى الله تكون إلى دينه، الذي هو درجات ثلاث : الإسلام والإيمان، والإحسان .

   والإسلام هو أن تشهد أن لا اله إلا الله، وأنَّ محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت.

   والإيمان هو أن تومن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الاخر، والقدر .

   والإحسان هو أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك .

    فهذا الدين الذي بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلّم. ولذا لما سأل جبريلُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلّم عن هذه الثلاثة وأجابه بما ذكر، قال النبي صلى الله عليه وسلّم بعد انصرافه: «ذاك جبريل، أتاكم يعلمكم أمر دينكم» (23).

  «وأما سبيل الله: فهو ما رسمه الله سبحانه، وأنزله على رسوله، فكان قرآنا، وكان سنة، وسبيل الله، بحسب القرآن الكريم والسنة الشريفة، يتبلور ويتمركز في:

- التوحيد في مجال العقيدة.

- الرحمة في مجال الأخلاق.

- العدل في التشريع.

  وسبيل الله كما صوَّره جعفر بن أبي طالب: توحيدُ الله وعبادتُه وحده، وصدقُ الحديث، وأداءُ الأمانة، وصلةُ الرحم، وحسنُ الجوار، والكفُّ عن المحارمِ والدماءِ، وإقامُ الصلاة، وإيتاءُ الزكاة، والصيامُ، والبعدُ عن الفواحشِ، وقولِ الزور، وأكلِ مال اليتيم، وقذفِ المحصنة» (24)

  وأما وسائل الدعوة: فإنها الحكمة، والموعظة الحسنة، والجدل الأحسن، وإنما تنوعت الوسائل لتنوّع المدعوُّين، فالمدعوون - وهم الناس كافة - على ثلاثة أقسام:

الأول: الكاملون الطالبون للمعارف الحقيقيّة والعلوم اليقينية، وهؤلاء يُدعون بالحكمة، وهي: الدلائل القطعيّة اليقينِيّةُ.

الثاني: الذين تغلب على طباعهم المشاغبة والمخاصمة لا طلب المعرفة الحقـيقيّة والعلوم اليقينية، وهؤلاء يجادَلون المجادلة التي تفحمهم وتلزمهم.

الثالث: الذين لم يبلغوا في الكمال حدّ الحكماء ولا في النقصان حد المشاغبين المخاصمين، بل هم باقُونَ على الفطرة الأصيلة والسلامة الخَلقية، وما بلغوا درجة الاستقراء لفهم الدلائل اليقينية، والمعارف الحكمية، وهؤلاء يدعون بالموعظة الحسنة.

  ولكون الحكمة أعلى الدلائل وأشرفها، والمدْعوّينَ بها هم الكاملين الـطالـبين للمعارف الإلهية والعلوم الحقيقية - وقليل ما هم - جيء بها أولاً، ولكون الجدل أدنى الدلائل، إذ ليس المقصود منه الدعوة، وإنما المقصود إلزام الخصم وإفحامه، ولا يستعمل إلا مع الناقصين الذين تغلب عليهم المشاغبة والمخاصمة، وليسوا بصدد تحصيل تلك العلوم ذُكر آخراً.

   ولكون الموعظة الحسنة دون الحكمة وفوق الجدل، والمدعوون بها هم المتوسِّطونَ الذين لم يبلغوا في الكمال حدّ الحكماء، ولا في النّقص درجة الجدال، وسطت بين الأمرين (25)!

وعلى ذلك يكون معنى الآية: ﴿ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ...، أي: ادع الأقـوياء الـكاملين إلى الدين الحق، بالحكمة، وهي:

البراهين القطعية اليقينية، وعوام الخلق بالموعظة الحسنة، وهي: الدلائل الـيقينـية الإقناعية، وكَلِّمِ المشاغبين بالجدل على الطريق الأحسن الاكمل، ولا تحقد عليه، ولا تغلظ له القول، ليعلم أنه ليس غرضك إهانته وإفحامه، وإنما غرضك إقناعه والوصول به إلى الحق.

   وعليك أيها الداعية أنْ تتفرَّس في المدعوين، فتعرف بفطنتك أصنافهم، والوسيلة التي تناسبهم كما عليك أن تتفرَّس فتعرف بحكمتك ما يناسبهم فتدعوهم إليه وتذكرهم به، فلا تتكلم معهم في موضوع لا ينفعهم، ولا تترك ما يحتاجونه.

 نسال الله أن يرزقنا السَّدادَ في الرأي، والإصابةَ في القولِ، وأنْ يرزقنا الحكمةَ، إنه وليُّ ذلك والقادر عليه.

(وللبحث صلة)...

 ____________________________________________________

 الحواشي:

(1) النحل: 125

(2) «التفسير الكبير» (20/141)

(3) يونس: 25

(4) آل عمران: 104  

(5) يوسف: 108  

(6) فصلت: 33

(7) مسلم (3/1506/1893)، وأبو داود (37/51-4/38)، والترمذي (147/2810-4/148).

(8) مسلم (4/2060/2674)، وابن ماجه (1/75/206)، والترمذي (4/141/2814)، وابو داود (12/363/4585).

(9) البخاري (7/70/3701)، ومسلم (4/1872/2406)

(10) يونس: 58

(11)البخاري (6/217/3116)، ومسلم (2/718/1037)، وابن ماجة (180/220).

(12)البخاري (1/165/73)، ومسلم (1/559/816)، وابن ماجة (2/1407/4208).

(13) آل عمران: 110

(14) آل عمران : 104

(15) المائدة: 78 ، 79

(16) البخاري (2493/ 5132) وهذا لفظه، والترمذي (3/318/2264) بنحوه.

(17) المائدة: 105

(18) الترمذي (4/322/5050)، وأبو داود (489/4316-11/490)، وابن ماجه (2/1327/4005).

(19) القصص: 87

(20) الأحزاب: 46

(21) يوسف: 108

(22) المؤمنون: 73

(23) مسلم (1/36/8)، والترمذي (4/119/2738)، وأبو داود (12/1670)، والنسائي (8/97)، وابن ماجه (1/24/63).

(24) «الجهاد» د.عبد الرحيم محمود.

(25) «التفسير الكبير» (20/141)

 

مجلّة الأصالة (40/17-46)

شارك المقال