المنهجية في طلب العلم

ظاهرة التعالم إلى أَين؟

  • الشيخ د. محمد موسى آل نصر الشيخ د. محمد موسى آل نصر
  • 13/11/2022
  • 348
ظاهرة التعالم إلى أَين؟

   يشهد العالمُ الإسلاميُّ اليومَ صحوةً علميّةً ودينيّةً، ولكنّها تحتاجُ إلى ترشيدٍ وتسديدِ لئلّا تخرجَ عن الجادّة فيصبح ضررُها أكثرَ من نفعِها؛ لإنَّ أَيَّ عَملٍ أَو توجّهٍ إِذا لَمْ يَقم على أساسٍ صحيحٍ كانَ إِثمُه أكبرَ من نفعِه، وشرُّه أكثرَ من خيرِه، وكانَ وبالاً على صاحبِه، فيصبحُ حالُه كمن قيل فيه: «وكم من مريد للخير لن يصيبه».

    وفي بلادِ الإسلامِ ظهرِ فتيان ينتمونَ لفئاتٍ شتّى، استعجلوا الثمرةَ قبل النضجِ، وبنوا السقفَ قبلَ الأساسٍ، والتمسوا النتيجةَ قبل السببِ، أَرادوا أَن يقفزوا من القاعدةِ إلى القمّةِ دون واسطةٍ ودون مقدمات، مع أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلّم - حذّرَ من الاستعجالِ حين قال لبعض أصحابِه: «إنّكم قومٌ تستعجلون» (١)، وقد قيل: «ومن استعجلَ الشيءَ قبل أوانِه عُوقبَ بحرمانِه».

    ومعلوم أنَّ طلبَ العلمِ يحتاجُ إلى صبرٍ وتأنٍّ وبعدٍ عن العجلةِ والتهوّرِ.

 ومن كانَ كذلك فقد تشبّعَ بما لم يعطَ، ولبسَ ثوبي زور، وأَجلسَ نفسَه مجالسَ العلماء، ليشارَ إليه بالبنانِ، ويصرفَ وجوه الناسِ إليه.

 والأَوْلى به أن يعرفَ قدر نفسه ليقف عند حدَّه.

 وأَمثال هؤلاء ما يلبثون أَن يحيطَ بهم الإِدبار، فينقلبوا على أَعقابِهم حين تنكشفُ سوآتُهم على رؤوسِ الأشهادِ، وقديماً قيل:

وكــل من يــدّعي مـا ليسَ فيــه       فـــضحته شـــواهدُ الامتحــــان

   ورحم الله قتادة حيثُ قال: «ومن حدّث قبلَ حينِه افتضحَ في حينِه».

   وقيل لسفيان الثوريِّ فيمن حدّثَ قبلَ أن يتأهلَ؟! فقال: «إِذا كثر الملّاحونَ غرقت السفينةُ».

   وقال الحسنُ البصريُّ رحمه الله: «اللهمَّ نشكو إِليك هذا الغُثاءَ».

   وقال ابن حزمٍ رحمه الله: «لا آفةَ على العلومِ وأَهلِها أَضرُّ من الدخلاءِ فيها، وهم من غيرِ أَهلِها، فإنَّهم يجهلونَ ويظنّون أَنّهم يعلمون، ويُفسدونَ ويقدِّرون أنّهم يصلحون» (2).

   قال الشيخ الفاضل بكر بن عبد الله أَبو زيد في كتابه الفريد «التعالم»:«فهؤلاء - النازلونَ في ساحةِ العلمِ وليسَ لهم من عدّةٍ سوى القلمِ والدواةِ والصحيفةِ المتعالمون من كلِّ من يدّعي العلم وليسَ بعالم - شخصيّةٌ مؤذيةٌ تتعاقبُ الشكوى منهم على مدى العصور، وتوالي النذر سلفاً وخلفاً.. ».

  فهذا القطيعُ حقاً هم غولُ العلمِ، بل دودةٌ لزجةٌ متلبدة أَسرابُها في سماءِ العلمِ، قاصرةٌ عن سموِّ أهلِه، وامتدادِ ظلِّه، معثرةٌ دواليبَ حركتِه حتّى ينطوي الحقُّ، ويمتدَّ ظلُّ الباطلِ وضلالُه فما هو إِلّا فجر كاذب وسهمٌ كابٍ حسير» (3).

   قلتُ: وقد حرّمَ اللهُ سبحانَه القولَ عليه بغيرِ علم، وجعلَ ذلك قرينَ الشركِ حيث قال سبحانه: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾، فبدأ سبحانه في هذه الآيةِ بالمحرماتِ الخمسِ متدرجاً من الأقلِّ حرمةً إِلى الأكثرِ.

    ومن نصبَ نفسَه معلماً ولم يتأهل بعدُ وقع في الشرك وهو لا يدري، وربّما دعا النّاس إليه، ممّا يوقعُهم في الضلالِ، فخطره مُتَعَدٍّ إِلى غيرِه، ومن هنا عطفَ اللهُ سبحانَه القولَ عليه بغير علم على الإشراك به.

    ومن المؤسف حقّاً اليومَ أَنَّكَ ترى كلَّ واحدٍ قد نصبَ نفسَه مفتياً دونَ أَهليةٍ متجاهلين قولَ اللهِ: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾.

   وقول الرَّسولِ -صلى الله عليه وسلّم-: «المُتشبعُ بما لَم يُعطَ كلابسِ ثوبي زور».

   وإليكَ أخي القارئ بعضَ أماراتِ هؤلاءٍ المتعالمين المتطاولين الذين تصدّروا قبل أَن يتأهلوا، وتزبَّبوا قبل أَن يتحصرموا:

   - تجهيلهم الآخرين، ولو كانوا أئمّةً في الدين.

   - ولعُهم بحمدِ أنفسهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، وربّما وصفوا أّنفسَهم بأَوصافٍ وأَلقابٍ ظاهرُها التواضعُ والزهدُ، والحقيقةُ خلافُ ذلك.

   - فرحُهم وغبطتهم بمن يمدحُهم، فتراهم يُقَرِّبُونَه ويُجلّونه، أمّا من ينتقدُهم فإنّهم يبغضونَه ويعادونَه، وربّما يُضَلِّلونَه ويُفَسِّقُونَه.

   - تتبُّعهم للغرائبِ الشواذّ من المسائل، وتَفَيْهُقُهم وتشدُّقُهم حباً للظهورِ، وعُلوّاً في الأَرض.

   - زهدُهم في الجلوسِ إلى مَنْ هو دونهم أَو في مرتبِتهم في العلمِ لئلّا يُنسبوا للجهلِ وقلّةِ العلمِ.

   - جرأتهم على الفتيا، وهجومهم عليها دون ورع أو تقوى، فقلّما يقول أحدهم: لا أَدري، حينما يُسألُ لئلّا ينسبَ للجهلِ، فينفضَّ عنه العامّة.

   - ومن علامتهم: تعلُّقُهم بالدنيا وأَهلِها، وطلبُ المنزلةِ عندهم، وربّما قدّموهم على إِخوانهم من المؤمنين لينالوا عندهم عَرَضاً من أَعراضِ الدنيا الفانية.

إلى هؤلاء المتعالمين أقولُ:

أَعيدوا النظرَ في أحوالِكم، وراجعوا أمورَكم، وأَصلحوا من شأنِكم، وابْدَؤوا من جديد، اطلبوا العلم عن أَهلِه، وَأْتُوا البيوتَ من أبوابِها، فمن جاءَ البيوتَ من غيرِ أبوابِها أخذَ أَخْذَ اللصوصِ، ولا تسألْ عن فضحيتِه وخزيه حينئذٍ، ولا تحسبوا -يا هؤلاء- العلمَ جمعاً للمعلوماتِ فحسب؛ إِذ لو كانَ كذلك من غير تقوى وعمل وتربية لكانَ (الكمبيوتر) شيخَ مشايخِ زمانِه، فارحلوا أيّها المتعالمون في طلبِ العلم، وخذوه عن العلماءِ العاملين كما كانَ سلفُ هذه الأمةِ يفعلون، وكانَ ذلك شرفَهم الذي يتفاخرون به.

ختاماً:

    أَسألُ اللهَ تعالى أن يهديَ المتعالمينَ، وأن يقيّضَ للأُمّةِ علماءَ عاملين ربّانيّين، يقمعون فتنة كلِّ متعالمٍ متشبعٍ بما لم يعطَ..

    ﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ﴾.

واللهُ من وراءِ القصد.

________________________________________________

الحواشي:

(1) أَخرجه البخاري.

(2) انظر«التعالم» (ص 26) لتقفَ على نصوص هؤلاء الأجلّة.

(3) «التعالم» (ص 28) لأَخينا الشيخ بكر بن عبد الله أَبو زيد حفظه الله.

 

مجلّة الأصالة (60/12-63)

شارك المقال