من خصائص العلوم الشرعية وسماتها الأساسية التلازم بين تعلمها والعمل بها.
جاء هذا الإسلام ومنهجه منهج علمي أصيل؛ ذلـك أنه بدأ كتابه المعجز بهذه الكلمة الجامعة ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ ثم وجدنا علماءنا وسلفنا الصالح وعلى رأسهم الإمام البخاري - رضي الله عنه ـ يُعَنْون للعلم بقوله: بابٌ: «العلم قبل القول والعمل» ثم يعلل ذلك؛ فيقول: بأن العلم شرط في صحة القول والعمل؛ فلا يعتبران إلا به فهو متقدم عليهما؛ لأنه مصحح للنية المصححة للعمل.
وهذه العبارات منضبطة وواضحة ثم يسترشد على ذلك بقول الحق تبارك وتعالى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ﴾؛ فقدم العلم على الشهادة، ثم قال: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ فالعلم في الإسلام لا يراد مجرداً عن العمل منفصلاً عنه، إنما العلم والعمل أمران متلازمان لا ينفكان أبداً.
يقول ابن قيم الجوزية - رحمه الله -: «العلم إمام العمل» وقائد له، والعمل تابع له ومؤتم به؛ فكل عمل لا يكون خلف العلـم مقتدياً به فهو غير نافع لصاحبه بل مضرة عليه.
قال بعض السلف: «من عبد الله بغير علم كان ما يُفسد أكثر مما يصلح، والأعمال إنما تتفاوت في القبول والرد بحسب موافقتها للعلم ومخالفتها له. فالعمل الموافق للعلم هو المقبول، والعمل المخالف له هو المردود، فالعلم هو الميزان وهو المحك» قال تعـالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾.
قال الفضيل بن عياض. «هو أخلص العمل وأصوبه». قالوا: يا أبا علي؛ ما أخلصه وما أصوبه؟ قال: «إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل؛ وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل حتى يكون خالصاً صواباً؛ فالخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة؛ قال تعالى: ﴿فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ (الكهف: ١١٠) ».
فهذا هو العمل المقبول الذي لا يقبل الله من الأعمال سواه، وهو أن يكون موافقاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مراداً به وجه الله، ولا يتمكن العامل من الإتيان بعمل يجمع هذين الوصفين إلا بالعلم؛ فإن لم يعمل بما جاء به الرسول لـم يمكنه قصده، وإن لم يعرف معبوده لم يمكنه إرادته وحده؛ فلولا العلم لما كان عمله مقبولاً، فـالعلم هو الدليل على الإخلاص، وهو الدليل على المتابعة» .
وقال أيضاً: «وحرمان العلم من وجوه ستة، وعد منها الوجه السادس: عدم العمل بالعلم؛ فإن العمل به يوجب تذكره وتدبره ومراعاته والنظر فيه، فإذا اهمل العمل به نسيه».
قال بعض السلف: «كنا نستعين على حفظ العلم بالعمل به».
وقال أيضاً: «العلم يهتف بالعمل فـإن أجابه حل وإلا ارتحل. فالعمل به من أعظم أسباب حفظه وثباته، وترك العمل بالعلم إضاعة له، فما اسُـتدرَّ العلم ولا استُجلِب بمثل العمل».
نعم إن العلماء لم يحتلوا هذه المكانة الرفيعة في نفوس العامة والخاصة؛ إلا لما امتازوا به من علم وخلق وأمانة وزهد؛ وذلك لتمسكهم بالقيم التي كانوا يؤمنون بها ويعبرون عنها، فكانت أقوالهم معـبرة تماماً عن أفعالهم، وكانت أفعالهم ترجمة حقيقية لكل ما كان يقولون.
لقد كان العلم بالنسبة لهم التزاماً يجب الوفاء به، وعهداً لا فكاك منه، فـإذا تحدث أحدهم عن الأخلاق نجده أول من يلتزم بها، وإذا تحدث عن الإيمان والتمسك بكلمة الحق نجده يضحي من أجله، وما قصة الإمام أحمد بن حنبل وشيخ الإسلام ابن تيمية منا ببعيد.
إن العلم في نظر الإسلام ليس مجرد حشو الرؤوس بالمعلومات، مهما تكن قيمة هذه المعلومات فلا يكفي فيها محض اكتسابها وتحصيلها؛ بل لا بد لصاحبها من الالتزام بالعمل وبالقيم الخلقية التي يفرضها العلم على أهله، والتي جعلتهم أهلاً لأن يكونوا ورثة الأنبياء.
إنه يجب أن يتحول الإيمان والفكر والخلق الإسلامي إلى واقع حي يمارسه الناس، وينتفعون به في صلاح أنفسهم ومجتمعهم.
إنه العلم الذي يهيئ الفرد المسلم بالمهارات التي تعينه على المساهمة في عمارة الحياة وكسب عيشه؛ ولذا استعاذ الرسول -صلى الله عليه وسلم- من علم لا ينفع.
على كل من تعلم علماً أن يعمل به، فلا يكذب قوله فعله؛ لأن العلـم يدرك بالبصائر، والعمل يدرك بالأبصار، وأرباب الأبصار أكثر.
فإذا خالف العلم العمل منع الرشد، ومتى يستقيم الظل والعود أعوج؟!!!
لا تنـــه عن خلق وتأتي مثلـــه عـــار عليــك إذا فــعلت عظيــم
ولذلك كان وزر العـالم في معاصيه أكبر من وزر الجاهل؛ إذ يزل بزلته عالم كثير، ويقتدون به، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها.
يقول علي -رضي الله عنه-: «قسم ظهري رجلان: عالم متهتك، وجاهل متنسك. فالجاهل يغر الناس بتنسكه، والعالم يغرهم بتهتكه».
وعن ميمون بن مهران قال: قال أبو الدرداء: «ويل لمن لا يعلم ولا يعمل مرة وويل لمن يعلم ولا يعمل سبع مرات».
وقال بعض الحكماء: «لولا العقل لم يكن علم، ولولا العلم لم يكن عمل».
وقـالوا: «من حجب الله عنه العلم عذبه على الجهل، وأشد منه عذاباً من أقبل عليه العلم فأدبر عنه، ومن أهدى الله إليه علماً فلم يعمل به، فطوبى لمن عمل بعلمه، وأنفق الفضل من ماله، وطوبى لمن طاب كسبه، وصلحت سريرته، وعزل عن الناس شره، وأمسك الفضل من قوته».
تم بحمد الله تعالى ـ وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
_______________________________________
الحواشي:
(١) انظر هذا الموضوع: «مفتاح دار السعادة»، (ص ١٠٢-١٠٣-٢١٣- ٢١٥) و«مسيرات البحث العلمي»، (ص١٣٥ - ١٣٦). و«إحياء علوم الدين»، (ص٦٤ـ٦٥) و«جامع بيان العلم وفضله» ( ج٢ص٦). و«حديث أبي الدرداء» (ص ١٤)، وما بعدها، و«مفتاح السعادة»، لطاش كبرى زاده، (ج١ ص٢٨، وص١٠٦). و«عوائق الطلب» (ص٢١ وما بعدها).
مجلّة الأصالة (40/22-42)