المنهجية في طلب العلم

حقيقة العلم الشرعي الضروري لبناء جيل مسلم

  • الشيخ د. صالح بن غانم السدلان الشيخ د. صالح بن غانم السدلان
  • 13/11/2022
  • 517
حقيقة العلم الشرعي الضروري لبناء جيل مسلم

   إنَّ فضيلة الشيء وشرفه تظهر تارة من عموم منفعته، وتارة من شدة الحاجة إليه وعدم الاستغناء عنه، وتارة من ظهور النقص والشر بفقده، وتارة من حصول اللذة والسرور والبهجة بوجوده لكونه محبوباً ملائماً فإدراكه يعقب غاية اللذة، وتارة من كمال الثمرة المترتبة عليه، وشرف علته الغائية وإفضائه إلى أجل المطالب، وهذه الوجوه ونحوها تنشأ وتظهر من متعلقه؛ فإن كان في نفسه كمال وشرف بقطع النظر عن متعلقاته جمع جهات الشرف والفضل في نفسه ومتعلقاته.

 ومعلوم أن هذه الجهات بأسرها حاصلة للعلم؛ فإنه أعم شيء نفعاً واكثره وأدومه والحاجة إليه فوق الحاجة إلى الغذاء بل فوق الحاجة إلى التنفس؛ إذا غاية ما يتصور من فقدهما فقد حياة الجسم. وأما فقد العلم ففيه فقد حياة القلب والروح فلا غنى للعبد عنه طرفة عين، ولهذا إذ فقد من الشخص كان شراً من الحمير، بل كان شراً من الدواب عند الله، ولا شيء أنقص منه حينئذ، وأما حصول اللذة والبهجة بوجوده فانه كمال في نفسه وهو ملائم غاية الملائمة للنفوس، فإن الجهل مرض ونقص، وهو في غاية الإيذاء والإيلام للنفس ومن لم يشعر بهذه الملاءمة والمنافرة فهو لفقد حسنه ونفسه(1).

 والعلوم التي يخوض فيها البشر ويتداولونها تحصيلاً وتعليماً لا تخرج عن صنفين:   

١- صنف يهتدي إليه الإنسان بفكره ويعمل فيه عقله.

٢ - وصنف نقلي يأخذه عمن وضعه   

 والذي يعنينا إنما هو الصنف الثاني: وهو العلوم النقلية الوضعية التي تستند إلى الخبر عن الوضع الشرعي ولا مجال للعقل فيها إلا في إلحاق الفروع في مسائلها بالأصول.   

وأصل هذه العلوم النقلية كلها هي الشرعيات من الكتاب والسنة .   

  وحاجة العباد إلى هذه العلوم ضرورية فوق حاجة أجسامهم إلى الطعام والشراب؛ لأن الطعام والشراب يحتاج إليه الإنسان في اليوم مرة أو مرتين، وحاجة الإنسان إلى العلم الشرعي بعدد الأنفاس لأن في كل نفس من أنفاسه هو محتاج فيه إلى أن يكون مصاحباً لإيمان أو حكمة، فإن فارقه الإيمان أو الحكمة لا يرجى نجاته، وليس إلى حصول ذلك سبيل إلا بالعلم.  

   يقول الإمام أحمد -رضي الله عنه-:  «الناس أحوج إلى العلم منهم إلى الطعام والشراب لأن الطعام والشراب يحتاجون إليه في اليوم مرة أو مرتين، والعلم يحتاج إليه كل وقت» .   

  وقد انطلقت مسيرة التربية والتعليم في صدر الإسلام من تلك العلوم ووضعت المصنفات التي ترسم المناهج التعليمية وزخرت المكتبة الإسلامية بالمصنفات التي ترسم المناهج التعليمية، وذلك على ضوء كتاب الله -تعالى وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- وعلى هدي السلف الصالح من هذه الأمة، كما وضعت المصنفات في التربية والأدب والتواصل في قطاع أهل الفقه والحديث والعبادة، وقامت النهضة العلمية بقيام الإسلام وانتشرت في داره عن طريق دور العلم.  

،،

اندفع المسلمون الأوائل ليبنوا حضارة إسلامية رائعة بالعلم الذي رسخ على قواعد من الإيمان

،،

   واندفع المسلمون الأوائل ليبنوا حضارة إسلامية رائعة بالعلم الذي رسخ على قواعد من الإيمان ثابتة لا تتزحزح في ظرف قرنين من الزمان هما طرفة عين في أعمار الأمم.   

   ومع انطلاق مسيرة التربية والتعليم في صدر الإسلام تفجر الينبوع الأول للحضارة والفكر في مجال العلوم الشرعية، وأضاء بنوره وقيمه وخلقه دياجير الجاهلية المظلمة وكانت معجزة الإسلام الخالدة إنما هو كتاب انطلقت منه الشرارة الأولى للعلم وكانت أول آية فيه (اقرأ)، ثم توالت الآيات الكثيرة التي تحض على طلب العلم والمعرفة، والنظر في ملكوت السماوات والأرض.   

   ومن درس الأديان السابقة على الإسلام أو قرأ كتبها ازداد إيماناً بعظمة الإسلام في هذا الجانب.   

من قرأ الأسفار في العهد القديم أو الجديد -مثلاً- لا تكاد تقع عينه إلا في القليل النادر على هذه الكلمات: العقل، والفكر، والنظر، والبرهان، والعلم، أو ما اشتق منها أو تفرع عنها أو كان له قرابة بها؛ لكن إذا قرأ القرآن وجد فيه أن كلمة «علم» وردت منكرة ومعرفة "80" مرة، أما مشتقاتها عليم وعلّام ويعلم وعلم. . . إلخ فقد ذكرت مئات المرات، ولا غرو، فالإسلام جاء منذ آياته الأولى يعلن بدء عصر العلم والإيمان ومولده، بدءًا بقوله:  ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5).   

  وحشد القرآن ما يقرب من خمسين آية في تحريك العقل البشري وانتشاله من وهدة التقليد والتبلد، كما حشد عشرات الآيات في إيقاظ الحواس من سمع وبصر ولمس، وعشرات أخرى في إيقاظ التفكير والتفقه فضلاً عن آيات طلب البرهان والحجة والجدال بالتي هي أحسن، بل إن القرآن أضاف حقيقة في غاية الأهمية وهي أنه أطلق كلمة العلم على (الدّين) كأنما يمزج بينهما في مرحلة العصر القرآني مزجاً لا فكاك له، ومن ثم يغدو العلم والدين سواء في لغة القرآن.   

  يقول القرآن الكريم مخاطباً النبي -صلى الله عليه وسلّم: ﴿...وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ۙ إِنَّكَ إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ﴾؛

أي: الدّين .   

   ويقول الله عن القرآن نفسه: ﴿وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَىٰ عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾.

    فالآيات كلها تفيد أن ما أنزل الله على محمد -صلى الله عليه وسلّم- من دين إنما هو (العلم)، وأن القرآن مفصل على علم؛ كما تبـين آية أُخرى هي قوله -تعالى-: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ....  

  وهذا المزج يتجلى في أوضح صورة في التاريخ الإنساني بين العلم والإيمان.   

  وحسبنا أن نشير إلى أن كلمة علم بتصريفاتها المختلفة قد وردت في القرآن الكريم في اكثر من سبعمائة وخمسين آية بل قد ذكرت أكثر من ثمانمائة وأربعين موضعاً.

   فإذا كان العلم هو الأساس والمنهج الذي حفظ به الإنسان رسالات السماء واختزن فيه   خبرات البشر التي تساعده إن أراد النمو والارتقاء؛ فإن حضارة الإسلام كانت جديرة بالاهتمام بالعلم وتشير الآيات القرآنية بوضوح إلى أهمية العلم ومكانة العلماء.   

  وقد دلت نصوص الكتاب والسنة على أن خير العلوم هو الذي يدلك على معرفة الله وخشيته وتقواه والإنابة إليه: ﴿وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾  (سبا:٣٦)   

،،
الفقه في الدّين يشمل: الفقه في أصول
الإيمان، وشرائع التفقه في العقائد، ومعرفة مذاهب السلف فيها، والتحقق به ظاهراً وباطناً، ومعرفة مذاهب المخالفين وبيان مخالفتها للكتاب والسنّة

،،

وقال تعالى-: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ (فاطر: ٤٢٨)؛ أي: العالمين بالله-عز وجل - الذين قدروا الله حق قدره، فمن يتعلم ويعلم العلم الذي يقرب من الله والدار الآخرة؛ فقد أراد الله به خيرا يقـول – صلى الله عليه وسلّم- : «من يرد الله به خيرا يفقه في الدين».

     فهذا الحديث تضمن فضائل العلم، فالعلم النافع علامة على سعادة العبد، وأن الله أراد به خيراً والفقه في الدين يشمل: الفقه في أصول الإيمان، وشرائع التفقه في العقائد، ومعرفة مذاهب السلف فيها، والتحقق به ظاهراً وباطناً، ومعرفة مذاهب المخالفين وبيان مخالفتها للكتاب والسنة، ويدخل فيه علم الفقه، أصوله وفروعه، وأحكام العبادات والمعاملات والجنايات وغيرها، ويدخل في ذلك أيضاً التفقه بحقائق ومعرفة السير والسلوك إلى الله الموافقة لما دل عليه الكتاب والسنة، وكذلك يدخل في هذا: تعلم جميع الوسائل المعينة على الفقه في الدين كعلوم العربية بأنواعها.   

  فمن أراد الله به خيرا فقهه في هذه الأمور ووفقه لها ودل مفهوم الحديث على أنّ من أعرض عن هذه العلوم بالكلية؛ فإن الله لم يرد به خيراً؛ لحرمانه الأسباب التي تنال بها الخيرات، وتكتسب بها السعادة في الحياة وفي الممات؛ فالعلم هو طريق الإيمان بالله، ويمكن القطع بأن البشر يجمعون على ذلك منذ كانوا على الأرض لا يشذ منهم إلا القليل النادر، وهذا هو العلم الواجب على المسلم أن يقبل عليه ويستفتح أبوابه ويرحل لطلبه من أقصى المشارق والمغارب ويتطلع له ويتضلع فيه ويأخذ منه بسهم وافر.   

   وحسبنا أن القرآن الكريم عندما نوّه بفضل العلم وجلال العلماء إنما عنى العلماء الذين يعرفون عظمة الخالق ويقدرونه حق قدره وينظرون في ملكوته قال تعالى-: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ﴾ (الروم:٤٢٢)؛ فكل ما يوثق صلة الإنسان بربه ويفتح له آمالاً أكثر وأكثر من الكشف والإدراك ويتيح له الإفادة من ذخائر الكون الخفية هو أشرف العلوم على الإطلاق، وهو مطلوب لنفسه مراد لذاته .   

  وقد أرسى في تربية المسلم منهج العلم داعياً إلى اليقين دون الظن ﴿إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ۚ﴾ (لنجم:٢٨).  

  والسعي وراء البرهان والدليل: ﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾، وحذر من الابتعاد عن الموضوعية والحيدة واتباع هوى النفس ﴿وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ (الأنعام: ١١٩).   

  ولم يقبل ما نقبله في تعليمنا اليوم من التلقين والترديد والاكتفاء بأدنى مستويات المعرفة؛ فهو يربي المسلم على الرؤية العلمية، والنظرة الثاقبة، والربط والتوظيف للمعرفة، والتأكيد على أن الإنسان محور الكون؛ كل علم؛ يرتبط بسعادته وارتقائه لا بتدميره وهلاكه، وتلك هي الإنسانية العلمية في التربية الإسلامية التي تنادي بها التربية اليوم في مواجهة تحديات الاستخدام المخيف للعلم والتكنولوجيا.   

  وانطلاقاً من ذلك نجد أن تحصيل العلم في الإسلام للحقيقة والنفع للنفس والناس، لا للمباهاة التي قد تدفع إلى الزيف أو المغنم، الذي يمثل مظهر الانحراف عن القصد، وقد احتضنت الحضارة الإسلامية كل نافع من حضارات الأمم السابقة إلى جانب ما جاءت به هذه الشريعة من الكمال والتمام في هذا الجانب، وقامت بتعليمه، مساجدها ومدارسها وترجمتها وأضافت إليها وطورتها.  

   والله تعالى- وحده الهادي إلى سبـيل العلم.  

____________________________________________

 الحاشية :

(١) انظر في هذا الموضوع: «مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة»، لابن قيم الجوزية (١ /  ١٠١-١٠٢ و١٠٦)، و«مقدمة ابن خلدون» (ص٥٥)، و«أثر العلم في تصحيح حياة الناس» للكاتب (ص104) 

مجلّة الأصالة (50/27-54)

شارك المقال