المنهجية في طلب العلم

العلم والتعلّم وفضل العلماء

  • الشيخ د. صالح بن غانم السدلان الشيخ د. صالح بن غانم السدلان
  • 13/11/2022
  • 492
العلم والتعلّم وفضل العلماء

     لا ريب أن الدين الاسلامي هو الذي حفَّز العرب - ومعهم من دخل في الاسلام من الأمم الأخرى - إلى التعمق في العلم والتَّبحُّر فيه، بل وتحمل المشاق والصعاب في سبيل تحصيله وجمعه، ثم في وجوب إشاعته بين الناس والنهي عن حبسه في صدور العلماء؛ فلم تعرف البشرية ديناً مثل الاسلام عني بالعلم أبلغ العناية وأتمها، دعوةً إليه، وترغيباً فيه، وتعظيماً لقدره، وتنويهاً بأهله، وحثاً على طلبه، وتعلمه وتعليمه بياناً لآدابه، وتوضيحا لآثاره، وترهيباً من القعود عنه، أو الازورار عن أصحابه، أو المخالفة لهدايته، أو الازدراء بأهله.

    وقد حض الاسلام على العلم والتعلم(1)، وحث على طلب المعرفة، والآيات والأحاديث والآثار في ذلك كثيرة .

    فمن الآيات الـدالّة على ذلك: قال الله تعالى: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾.

  وقال تعالى : ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾.           

  وقال تعالى : ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ۚ﴾.

  وقال تعالى : ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾.

  وقال تعالى: ﴿قُلْ كَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ﴾.

  وقال تعالى: ﴿قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ﴾.

  وقال تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا﴾.

  وقال تعالى: ﴿وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾.

  وقال تعالى: ﴿بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾

 والكتاب المبين يثير طاقة العقل الإنساني، ويوجهه إلى المشاهدة والملاحظة والإدراك لشتى ظواهر الـكون الواضحة لكل ذي عينين، ونواميسه المعجزة التي سبر أغوارها أهل العلم بالبحث والتدبر، والآيات القرآنية في ذلك كثيرة على نحو ملفت للنظر في هذا القرآن العظيم المعجز، والإنسان مطالب بأن يتفكر في كل ذلك، وبأن يتبصر في حكم الخالق العظيم، لا أن يأكل ويستمتع بهذه الخيرات فحسب، وإلا تحول إلى نوع من الأنعام.

   ومن الأحاديث الشريفة الواردة في فضل العلم والتعلم وبيان منزلة العلماء ما يلي:   

  عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له»(2).

  وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : «من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة»(3).

  وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: إني سمعت رسول الله يقول: «من سلك طريقاً يطلب فيه علماً، سلك الله به طريقاً من الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم، وإن العالم يستغفر له من في السموات ومن في الأرض والحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورِّثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورَّثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر»(4).

  وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقـول: «إن الله عز وجل أوحى إليَّ: أنه من سلك مسلكاً في طلب العلم سهلت له طريق الجنة، وفضل في علم خير من فضل في عبادة، ومـلاك الدين الورع»(5).

     والأخبار والأثار الواردة في شرف العلم، وفضل العالم والمعلم والمتعلم وطالب العلم كثيرة جداً، والمراد بالعلم هنا علم الـدين والشرع المبين، وهو علم الكتاب العزيز والسنة المطهرة، وليس المراد به العلوم المستحدثة التي عني الناس بها في هذا الزمان، وخاضوا فيها خوضاً منعهم عن النظر في علوم الإيمان، وأشغلهم عن الاشتغال بمراد الله تعالى ورسوله سيد الإنس والجان؛ حتى صار علم القرآن مهجوراً، وعلم الحديث مغموراً، وظهر صنائع أقوام الكفر والإلحاد، وسميت بالعلوم والفنون والكمال المستجاد، وهي كل يوم في ازدياد؛ فـإنا لله وإنا إليه راجعون.

   قد احتل العلماء والفقهاء مكانة عظمى في المجتمع المسلم في صدر الاسلام، ذلك للمعاني الرفيعة التي كانوا يمثلونها، والتي رسخها الدين الاسلامي العظيم في نفوس أبنائه، مما انعكس على سلوكياتهم في تعاملهم مع هؤلاء العلماء والفقهاء، فقد تكاثرت أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- وتتابعت بعد أبيات القرآن الكريم، في بيان فضل العلم ومنزلة العلماء، ورفعتهم مكاناً علياً،لا يسعى إلـيه على قدم، ولا يطار له على جناح إلا بواسطة العلم.  

  ولا ريب أن أَوْلَى العلوم بذلك هو علم الدين، الذي به يعرف الإنسان ربه، ويهتدي إلى غايته، ويكتشف طريقه، ويعلم ماله وما عليه، ثم بعد ذلك كل علم يكشف عن حقيقة تهدي الناس إلى الحق، أو تقربهم من خير، أو تحقق لهم مصلحة، أو تدرأ عنهم مفسدة .  

  إن أول ما نزل من أبيات القرآن الكرم قول الله لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ...﴾ الآيات.

  وهذه أول صيحة تسمو بقدر القلم، وتنوه بقيمة العلم، وتعلن الحرب على الأمية الغافلة، وتجعل اللبنة الأولى في بناء الجيل المسلم أن يقرأ ويتعلم .

  لذلك أعزَّ الله العلماء وآثرهم بكرامته وفضله، قـال رسول الله -صلى الله عليه وسلّم-: «يقول الله عز وجل للعلماء يوم القيامة إذا قعد على كرسيه للفصل بين الخلائق: إني لم أجعل علمي وحلمي فيكم؛ إلا وأنا أريد أن أغفر لكم على ما كان فيكم ولا أبالي» الطبراني .

  قال الحافظ المنذري: «انظر إلى قوله سبحانه: «علمي وحلمي»، وأَمْعِن النظر فيه؛ يتضح لك من إضافته إليها عزَّ وجل؛ أنه ليس المراد به علم أكثر أهل زماننا المجرد عن العمل به والإخلاص فيه؛ فهو علم لم يستبد به النزق، ولم تسخره الشهوات» .

  إن التعلم والتعليم روح الاسلام لا بقاء لجوهره ولا كفالة لمستقبله إلا بهما، والناس في حكم الاسلام أحد رجلين: إما متعلم يطلب الرشد، وإما عالم يطلب المزيد، وليس بعد ذلك من يؤبه له. 

  وتلك نصوص قاطعة في أن المسلمين يجب أن يتعلموا؛ وإلا خانوا الأمانة التي حملوها، وجهلوا الناس عمدا بها، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «الناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الاسلام إذا فقهوا»(6).

  طرف من أقوال السلف، وعلماء هذه الأمة في بيان فضل العلم، وشرفه:

قال بعض السلف: «كفى بالعلم شرفاً أن يدعيه من لا يحسنه ويفرح به إذا نسب إليه، وكفى بالجهل ذماً أن يتبرأ من هو فيه».

وقال بعضهم أيضاً: «خير المواهب العلم، وشر المصائب الجهل، والعلماء في الأرض مثل النجوم في السماء إذا بدت للناس اهتدوا، وإذا غابت عنهم تحيروا».

((إن التعلم والتعليم روح الاسلام لا بقاء لجوهره ولا كفالة لمستقـبله إلا بهما، والناس في حكم الاسلام أحد رجلين إما متعلم يطلب الرشد، وإما عالم يطلب المزيد وليس بعد ذلك من يؤبه له))

  وقال سفيان بن عيينة: «أرفع الناس عند الله منزلة: من كان بين الله وبين عباده، وهم: الأنبياء والعلماء»، وقال أيضاً: «لم يعط أحد في الدنيا شيئاً أفضل من النبوة، وما بعد النبوة شيئاً أفضل من العلم والفقه، ومن أراد النظر إلى مجالس الأنبياء؛ فلينظر إلى مجالس العلماء».

  وقال الشافعي رحمه الله: «طلب العلم أفضل من النافلة»، وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: «من رأى أن الغدُوَّ لطلب العلم ليس بجهاد فقد نقص في رأيه وعقله .

 ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (فصلت:33)».

  وقال أيضاً: «العالم والمتعلم شريكان في الخير، وسائر الناس هَمَجٌ لا خير فيهم»، وقال: «كن عالماً أو متعلماً أو مستعلماً، ولا تكن الرابعة فتهلك»، وقال أبو الأسود: «ليس شيئاً أعزّ من العلم، الملوك حكام على الناس، والعلماء حكام على الملوك»، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: «خُيِّرَ سليمان بن داود عليهما السلام بين العلم والمال والملك فاختار العلم فأعطي المال والملك معه».

  وقال ابن مسعود رضي الله عنه: «عليكم بالعلم قبل أن يرفع، ورفعه هلاك العلماء، فوالذي نفسي بيده ليودّن رجالاً قـتلوا في سبيل الله شهداء أن يبعثهم الله علماء لما يرون من كرامتهم، وإن أحداً لم يولد عالماً، وإنما العلم بالتعلم».

  لكل ما سبق - وهناك كثير غيره - نجد أن هذا المجتمع المسلم الواعي في صدر الإسلام وعلى مر الأزمان قد وضع العلماء في المكانة اللائقة بهم؛ فكرّمهم وأعزهم وأجاب جميع مطالبهم، وما كانوا يطلبون أكثر ما يعينهم على أداء رسالتهم الخالدة؛ فلم تكن الدنيا مبلغ همّهم، ولا منتهى علمهم، ولم تشغلهم كثيراً مما مُكِّن لهم وفرض احترامهم على الجميع؛ لأنهم اعتزوا بالله أولاً ثم بعلمهم ثانياً. فيا لله! من عصر تُقلب فيه الحقائق، ويتوارى فيه العلماء من واجهة المجتمع في كثير من البلدان الإسلامية، وتخفّ وطئتهم في التأثير في حياة الأمة، وما كان ذلك إلا أن الحكام والمسؤولين لم يعرفوا لهؤلاء أقدارهم، ولم ينزلوهم منازلهم؛ فإلى الله المشتكى !!

 ___________________________________________

(1) انظر في هذا الموضوع: «مفتاح السعادة» (ج1، ص5-6)، و«من ميسرات البحث العلمي عند المسلمين» (86-93-119-135)، و«شرح حديث أبي الدرداء في طلب العلم»،(28-29-35-38-39)، والمفتاح دار السعادة» (ص144-147)، و«أبجد العلوم (ج1،ص91).

(2) رواه مسلم.  

(3) رواه مسلم. 

(4) رواه أحمد والترمذي وأبو داود وابن ماجه والدارمي.  

(5) رواه البيهقي في «شعب الإيمان».

(6) صحيح مسلم.

مجلّة الأصالة (63/28-68)

شارك المقال