المنهجية في طلب العلم

التماس العذر للعلماء

  • الشيخ د. عبد الرحمن بن مُعّلا اللويحق الشيخ د. عبد الرحمن بن مُعّلا اللويحق
  • 13/11/2022
  • 410
التماس العذر للعلماء

    العلماءُ هم خير أمَّة محمّد -صلى الله عليه وسلّم-، وإذا كان هذا هو الأصل فـيهم، فـإنَّ من الواجب التماس العذر وإحسان الظن بهم؛ إذ من الواجب على المؤمن أن يظن بأهل الإيمانِ والخيرِ والدينِ والصلاحِ الخيرَ، حينما يسمع عنهم تهمةً من التهم، يقول الله -عزّ وجـلّ- في قصة الإفك: ﴿لَّوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَٰذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ  (النور:12).

   فإحسان الظنّ والتماس العذر للمؤمنين خُلُقٌ نبيل، يقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: «لا تظن بكلمة خرجت من أخيك المسلم سوءاً، وأنت تجد لها في الخير محملًا«(1).

  وقال محمد ابن سيرين -رحمه الله-:- «إذا بلغك عن أخـيك شيءٌ تكـرهه فالتَمِس له عذراً؛ فإن لم تجد فقل: لعلَّ له عُذراً«(2).

  وقال أبو قِلابة -رحمه الله-: «إذا بلغك عن أخيك شيءٌ تكرهه فالتمس له العذر جهدك، فإن لم تجد له عذراً فقُل في نفسك: لعلَّ لأخي عذراً لا أعلمه«(3).

وهذا الكـلام في العلاقات الأَخوية؛ فما بالك بعلاقة التلميذ شيخه، وعلاقات الأمة مع العلماء؟! إن الأمر حينذاك آكد.
 يقول السُّبْكي -رحمه الله
-: «فإذا كان الرجل ثقةً مشهوداً له بالإيمان والاستقامة، فلا ينبغي أن يُحمل كلامه، وألفاظ كتاباته على غير ما تُعُوِّد منه، ومن أمثاله؛ بل ينبغي التأويل الصالح وحسنُ الظن الواجب به وبأمثاله«(4).

 إن مِن التماس العذر للعلماء التماسه لمن أجاب في فتنة خلق القرآن، وما يشبهها خوفاً من النِّكال والعذاب بما يخالف الحقّ، فأتى الرخصةَ -التي قد ثبتت في النُّطق بكلمة الكفر مع اطمئنان القلب بالإيمان -، والعالِمُ بَشَرٌ يعرِض له الخوفُ، فقد يقولُ تقيَّةَ ما يُطلب منه خشيةَ الضربِ والسجن، فيفعل الرخصة مع ترك العزيمة التي هي أولى في حق العالم الذي ينبغي منه الصبرُ على الأذى في الله -عز ّوجلّ- حتى لا يفتتن الناس بفعله وقوله.  

 قال المروذي -رحمه الله-:- «سمعتُ رجلاً من أهل العسكر يقول لأبي عبدالله: ابن المديني يُقرئك السلام، فسكت، فقلت لأبي عبدالله: قال لي عباسٌ العنبري: قال: عليُّ بن المديني: وذكر رجلاً فتكلم فيه، فقلت له: إنهم لا يقبلون منك، إنّما يقبلون من أحمد بن حنبل، قال: قَويَ أحمدُ على السوط وأنا لا أقوى«(5).  

«وقال إبراهيم بن عبدالله الجُنيد: سمعت يحيى بن معين وذُكر عنده عليٌّ ابن المديني، فحملوا عليه، فقلت: ما هو عند الناس إلا مرتدٌّ، فقال: ما هو بمرتدّ، هو على إسلامه، رجلٌ خاف فقال«(6) .

وقال ابنُ عمّار الموصليّ: «قال لي علي بن المديني: ما يمنعك أن تُكفّر الجهمية؟ وكنتُ أنا أوّلاً لا أكفّرهم، فلما أجاب علـيٌّ إلى المحنة، كتبت إلـيه أذكّره ما قال لي، وأذكّره الله، فأخبرني رجلٌ عنه أنه بكى حين قرأ كتابي، ثم رأيته بعد، فقال لي: ما في مما قلتَ، وأجبتَ إليّ شيءٌ؛ لكني خفت أن أقتل، وتعلمُ ضعفي؛ أني لو ضُربت سوطاً واحداً لمتُّ -أو نحوهذا-»(7).

  وقال ابن عمار -بعد ذلك-: «ما أجاب ديانةً ولكن خوفاً»(8).

 وقال الحافظ أبو زُرعة الرازي -رحمه الله-: «كان أحمد بن حنبل لا يرى الكتابة عن أبي نصر التّمّار، ولا عن جبى بن معـين، ولا عن أحدٍ ممن امتحن فأجاب»(9).  

قال الحافظ الذهبي -رحمه الله-: «هذا أمر ضيّق، ولا حرج على من أجاب في المحنة؛ بل ولا على من أُكره عـلى صريح الكفر، عملاً بالآية، وهذا هو الحق، وكان يحيى -رحمه الله- من أئمة السنة، فخاف من سطوة الدولة، وأجاب تَقِيّةً»(10).

ومما يُلام عليه العلماءُ على مرّ الـتاريخ لوماً شديداً الأخذُ من الحكام، ولا بدّ من التماس العذر للعالم؛ من فقرٍ، أو حاجة، أو نحو ذلك؛ بل قد يكـون العالم غنياً ويأخذ؛ إذ عَدَمُ الأخذ من بيت المال إنما هو من باب الورع الذي لا يُلزم به كلّ أحد؛ وإن كان العلماء أولى الناس بالزهد والورع.  

قال بِشْرُ بن عبدالواحد: «رأيت أبا نُعيم في المنام، فقلت: ما فعل الله بك؟ - يعـني: فيما كان يأخذ على الحديث-، فقال: نظر القاضي في أمري، فوجدني ذا عيال فعفا عني»(11).

  قال الإمام الذهبي -رحمه الله-:«ثبت أنه كان يأخذ على الحديث شيئاً قليلاً لفقره».  

  قال ابن خَشرم: سمعت أبا نُعيم يقول: يلومونـني على الأخذ وفي بيتي ثلاثةَ عشرَ نفساً، وما في بيتي رغيف.  

 قلت القـائل الذهبي-: «لاموه على الأخذ- يعني من الإمام-، لا من الطلبة»(12).

 ومما يُلتمس العذر فيه للعالم: مراعاة طبيعـته الذاتـية؛ فقد يكون العـالم ذا طبيعة متسامحة مثلاً، فـيجالس أهل الـبدع- وحقه أن يكفهرّ في وجوههم- ويخالطهم، لا رضىً بحالهم؛ بل لما هو علـيه من التسامح الـزائد عن حده، فـيظن الجاهل بحاله أن هذا العالم بخلطته أهل البدع منهم، وما هو منهم.  

  قال الواقدي - في الكلام عن ابن أبي ذئب-: «ولد سنة ثمانين، وكان من أورع الناس وأودعهم، ورُمي بالقدر، وما كان قَدَرياً، لقد كان يتّقي قولَهم ويعيبه؛ ولكنه كان رجلاً كريماً، يجلس إليه كلُّ أحـدٍ، ويغشاه فلا يطرده، ولا يقول له شيئاً، وإن مرض عاده، فكانوا يتهمونه بالقدر لهذا وشبههِ»(13).

  قال الإمام الذهبي -رحمه الله-:  «كان حقه أن يكفهرّ في وجوههم، لعله كان حسنَ الظن بالناس»(14).

 _______________________________________

  الحواشي:

(1) ذكره الحافظ ابن كثير في «تفسير القرآن العظيم» (4/213).

(2) رواه أبو الشيخ الأصبهاني (97).  

(3) رواه أبو نعيم في «الحلية» (2/258).

(4) «قاعدة الجرح والتعديل«(93) .  

(5) نقلاً عن الذهبي «سير أعلام النبلاء» (11/55).

(6) المصدر السابق (11/57).  

(7) المصدر السابق (11/57).

(8) المصدر السابق.

(9) المصدر السابق (11/87).

(10) المصدر السابق.

(11) المصدر السابق (10/ 152).  

(12) المصدر السابق.

(13) المصدر السابق (7/ 140-141).  

(14) المصدر السابق (7/ 141).  

مجلّة الأصالة  (34/ 46-43)

شارك المقال