المنهجية في طلب العلم

معالم في الفقه الشرعي

  • الشيخ عبدالله بن صالح العبيلان الشيخ عبدالله بن صالح العبيلان
  • 23/11/2023
  • 862
معالم في الفقه الشرعي

   أتساءل عن الأسباب التي جعلت بعض العلماء يكونون محلّ ثقة وقبول عند كافّة أهل العلم -على اختلاف مذاهبهم-، وأتعجّب من قلّتهم، وكثرة الفقهاء والذين لا يكادون يُعرَفون إلّا من خلال كتب التراجم -مع صلاحهم واستقامتهم، وربما جهادهم-، فتبيّن لي الأسباب التالية:

أول: التجرّد لله -تبارك وتعالى-، وهذا أخص من الإخلاص في العبادة.  

الثاني: التجرّد في متابعة النّبي -صلّى الله عليه وسلّم-. 

الثالث: تعظيم آثار الصحابة -رضي في الله عنهم- قولاً وعملاً في فهم الكتاب والسنّة.

الرابع: الاطّلاع الواسع على السّنن النّبوية، والقدرة على معرفة صحيحها من سقيمها.

الخامس: المعرفة التامّة بآثار الصحابة وفتاويهم، وقرنها بالحديث النّبوي لمعرفة المراد.

السادس: العلم بمقاصد الشريعة ومصالحها. 

السابع: الإلمام بأقوال أهل العلم -على اختلاف مذاهبهم-.

الثامن: القدرة على التوفيق بين ما يُظَنُّ فيه التعارض عند غيرهم.

التاسع: معرفة الناس عل اختلاف طبائعهم.

   وإليك بعض الأسباب التفصيليّة التي ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية، وكانت سبباً في الإعراض عن النصوص والآثار:

  يقول شيخ الإسلام -رحمه الله-: «قلت: لفظ المجمل والمطلق والعام كان في اصطلاح الأئمة -كالشافعي، وأحمد، وأبي عبيد، وإسحاق، وغيرهم- سواء؛ لا يريدون بالمجمل ما لا يفهم منه، كما فسّره بعض المتأخرين وأخطأ في ذلك

   بل المجمل ما لا يكفي -وحده- في العمل به، وإن كان ظاهره حقاً، كما في قوله -تعالى-: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا (التوبة:103)، فهذه الآية ظاهرها ومعناها مفهوم، ليست مما لا يفهم المراد به؛ بل نفس ما دلّت عليه لا يكفي وحده في العمل، فإنّ المأمور به صدقة تكون مطهّرة مزكّية لهم، وهذا إنما يعرف ببيان الرسول -صلى الله عليه وسلّم«.

ولهذا قال أحمد: «يحذر المتكلّم في الفقه هذين الأصلين: المجمل والقياس»، وقال:«أكثر ما يخطئ الناس من جهة التأويل والقياس» يريد بذلك أن لا يحكم بما يدلّ عليه العام والمطلق، قبل النظر فيما يخصه ويقيده، ولا يعمل بالقياس قبل النظر في دلالة اللفظ والقياس، فالأمور الظنيّة لا يعمل بها حتى يبحث عن المعارض بحثاً يطمئنّ القلب إليه، وإلّا أخطأ من لم يفعل ذلك، وهذا هو واقع المتمسّكين بالظواهر والأقيسة؛ ولهذا جعل (أي: الإمام الأحمد) الاحتجاج بالظواهر -مع الإعراض عن تفسير النّبي صلى الله عليه وسلّم وأصحابه- طريق أهل البدع؛ وله في ذلك مصنف كبير، وكذلك التّمسك بالأقيسة مع الإعراض عن النصوص والآثار طريق أهل البدع؛ ولهذا كان كل قول ابتدعه هؤلاء قولاً فاسداً، وإنّما الصّواب من أقوالهم ما وافقوا فيه السّلف من الصحابة والتّابعين لهم بإحسان(1)». 

ثم إنّ ابن القيّم -رحمه الله- بيّن في «إعلام الموقعين» بعض أخطاء أهل الظاهر، فيقول:

  «فنفاة القياس لما سدُّوا على نفوسهم باب التّمثيل والتعليل، واعتبار الحِكم والمصالح -وهو من الميزان والقسط الذي أنزله الله- احتاجوا إلى توسعة الظاهر والاستصحاب، فحمَّلوها فوق الحاجة، ووسَّعوها أكثر مما يسعانه، فحيث فهموا من النّصّ حكماً أثبتوه ولم يبالوا بما وراءه، وحيث لم يفهموا منه نفوه، وحملوا الاستصحاب، وأحسنوا في اعتنائهم بالنّصوص ونصرها، والمحافظة عليها، وعدم تقديم غيرها عليها من رأي، أو قياس، أو تقليد، وأحسنوا في ردّ الأقيسة الباطلة، وبيانهم تناقض أهلها في نفس القياس وتركهم له، وأخذهم بقياس، وتركهم ما هو أولى منه، ولكن أخطأوا من أربعة أوجه:

أحدهما: ردّ القياس الصحيح، ولا سِيّما المنصوص على علّته التي يجري النّصّ عليها مجرى التّنصيص على التعميم باللفظ، ولا يتوقّف عاقل في أنّ قول النّبي -صلّى الله عليه وسلّم- لمّا لعن عبدالله حماراً على كثرة شربه للخمر-: «لا تلعنه؛ فإنه يحب الله ورسوله» بمنزلة قوله: «لا تلعنوا كل من يحب الله ورسوله»، وفي أنّ قوله: «إنّ الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر؛ فإنّها رجس»، بمنزلة قوله: «ينهيانكم عن كل رجس»، وفي أنّ قوله -تعالى-: ﴿إِلَّا أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ (الأنعام : ١٤٥) نهي عن كل رجس، وفي أنّ قوله في الهر: «ليست بنجس؛ إنّها من الطّوافين عليكم والطّوافات» بمنزلة قوله: «كل ما هو من الطوّافين عليكم والطّوافات فإنّه ليس بنجس.

  ولا يستريب أحد في أنّ من قال لغيره: «لا تأكل من هذا الطعام؛ فإنّه مسموم»، نهي له عن كل طعام كذلك، وإذا قال: «لا تشرب هذا الشراب فإنّه مسكر»، نهي له عن كل مسكر، «ولا تتزوّج هذه المرأة؛ فإنّها فاجرة»، وأمثال ذلك.  

الخطأ الثاني: تقصيرهم في فهم النصوص، فكم من حكم دلّ عليه النّصّ ولم يفهموا دلالته عليه، وسبب هذا الخطأ حصرهم الدّلالة في مجرّد ظاهر اللفظ، دون إيمائه وتنبيهه، وإشارته وعرفه عند المخاطبين، فلم يفهموا من قوله: ﴿فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ (الإسراء:223) ضرباً، ولا سبّاً، ولا إهانة غير لفظة أف، فقصّروا في فهم الكتاب كما قصّروا في اعتبار الميزان.

الخطأ الثالث:  تحميل الاستصحاب فوق ما يستحقه، وجزمهم بموجبه؛ لعدم علمهم بالنّاقل، وليس عدم العلم علماً بالعدم.

الخطأ الرابع: اعتقادهم أنّ عقود المسلمين، وشروطهم، ومعاملاتهم كلّها على البطلان حتى يقوم دليل على الصحّة، فإذا لم يقم عندهم دليل على صحّة شرط، أو عقد، أو معاملة استصحبوا بطلانه، فأفسدوا بذلك كثيراً من معاملات النّاس وعقودهم وشروطهم -بلا برهان من الله- بناء على هذا الأصل، وبجمهور الفقهاء على خلافه، وأنّ الأصل في العقود والشروط الصحّة، إلا ما أبطله الشارع أو نهى عنه.

 وهذا القول هو الصحيح، فإنّ الحكم ببطلانها حكم بالتحريم والتأثيم، ومعلوم أنّه لا حرام إلا ما حرّمه الله ورسوله، ولا تأثيم إلّا ما أثّم الله ورسوله به فاعلَه، كما أنّه لا واجب إلّا ما أوجبه الله، ولا حرام إلّا ما حرّمه الله، ولا دين إلّا ما شرعه، فالأصل في العبادات البطلان حتى يقوم دليل على الأمر، والأصل في العقود والمعاملات الصحّة حتى يقوم دليل على البطلان والتحريم».

  ثم أخطاء أصحاب الرأي والقياس، فقال: «وأمّا أصحاب الرأي والقياس؛ فإنّهم لمّا لم يعتنوا بالنصوص ولم يعتقدوها وافية بالأحكام، ولا شاملة لها؛ وغلاتهم على أنّها لم تَفِ بعشر معشارها! فوسّعوا طرق الرأي والقياس، وقالوا بقياس الشبه، وعلّقوا الأحكام بأوصاف لا يُعلم أنّ الشارع علّقها بها، واستنبطوا عللاً لا يُعلم أنّ الشارع شرع الأحكام لأجلها، ثم اضطرهم ذلك إلى أن عارضوا بين كثير من النصوص والقياس، ثم اضطربوا: فتارة يقدمون القياس، وتارة يقدّمون النّصّ، وتارة يفرّقون بين النص المشهور وغير الشهور، واضطرهم ذلك -أيضاً- إلى أن اعتقدوا في كثير من الأحكام أنّها شرعت على خلاف القياس، فكان خطؤهم من خمسة أوجه:

أحدها: ظنّهم قصور النّصوص عن بيان جميع الحوادث.

الثاني: معارضة كثير من النّصوص بالرّأي والقياس.

الثالث: اعتقادهم في كثير من أحكام الشريعة أنها على خلاف الميزان والقياس، والميزان هو العدل، فظنّوا أنّ العدل خلاف ما جاءت به من هذه الأحكام.

الرابع: اعتبارهم عللاً وأوصافاً لم يعلم اعتبار الشارع لها، وإلغاؤهم عللاً وأوصافاً اعتبرها الشارع -كما تقدم بيانه-.

الخامس: تناقضهم في نفس القياس -كما تقدّم- أيضاً»(2).

  ثم قال في بيان فضل الصحابة في العلم على مَن بعدهم: «هذا فيما انفرد به عنّا، أمّا المدارك التي شاركناهم فيها -من دلالات الألفاظ والأقيسة-؛ فلا ريب أنّهم أبرّ قلوباً، وأعمق علماً، وأقلّ تكلفاً، وأقرب إلى أن يُوَفَّقوا فيها لما لم نوفّق له نحن، لِما خصّهم الله -تعالى- به من توقّد الأذهان، وفصاحة اللسان، وسعة العلم، وسهولة الأخذ، وحسن الإدراك وسرعته، وقلّة المعارض أو عدمه، وحسن القصد، وتقوى الربّ -تعالى-، فالعربيّة طبيعتهم وسليقتهم، والمعاني الصحيحة مركوزة في فطرهم وعقولهم، ولا حاجة بهم إلى النّظر في الإسناد وأحوال الرّواة، وعلل الحديث والجّرح والتعديل، ولا إلى النّظر في قواعد الأصول وأوضاع الأصوليين، بل قد غُنُوا عن ذلك كله، فليس في حقهم إلا أمران:

أحدهما: قال الله -تعالى- كذا، وقال رسول الله كذا.

والثاني: معناه كذا وكذا، وهم أسعد النّاس بهاتين المقدّمتين وأحظى الأمّة بها، فقواهم متوفرة مجتمعة عليها، وأمّا المتأخّرون فقواهم متفرّقة، وهممهم متشعّبة، فالعربيّة وتوابعها قد أخذت من قوى أذهانهم شعبة، والأصول وقواعدها قد أخذت منها شعبة، وعلم الإسناد وأحوال الرّواة قد أخذ منها شعبة، وفكرهم في كلام مصنّفيهم وشيوخهم على اختلافهم وما أرادوا به قد أخذ منها شعبة، إلى غير ذلك من الأمور، فإذا وصلوا إلى النّصوص، -وإن كان لهم همم تسافر إليها بقلوب وأذهان قد كلّت من السير في غيرها، وأوهن قواهم مواصلة السُّرى في سواها».

 والمقصود: أنّ الصحابة أغناهم الله- تعالى- عن ذلك كلّه، فاجتمعت قواهم على تينك المقدّمتين فقط، هذا إلى ما خُصُّوا به من قوى الأذهان وصفائها، وصحّتها وقوّة إدراكها وكمالها، وكثرة المعاون وقلّة الصارف، وقرب العهد بنور النبوّة، والتّلقي من تلك المشكاة النّبويّة، فإذا كان هذا حالنا وحالهم فيما تميّزوا به علينا وما شاركناهم فيه، فكيف نكون نحن أو شيوخنا أو شيوخهم، أو من قلّدناه أسعد بالصّواب منهم في مسألة من المسائل؟ ومن حدّث نفسه بهذا فلْيعزِلْها من الدّين والعلم، والله المستعان(3).

 ولعلّ انتساب كثير من أهل العلم إلى المذاهب الأربعة ومذهب أهل الظاهر ساعد في ضعف الأخذ بآثار الصحابة، والعناية بالحديث النّبوي رواية ودراية، وقد أشار إلى هذا ابن القيم -رحمه الله-(4).

 ولا يعني هذا أنّ أتباع الأئمة جانبوا الصواب في معرفة الأحكام، فأصول مذاهبهم معتمدة على الحديث والأثر، وبهذا كان يُنادي الأئمة -جميعاً-.

   فما كان من تقريراتهم على منهاج الأئمة فهو الحق، وبهذا يحصل اتفاق الأتباع؛ لأنّ المشكاة واحدة، وما كان سوى ذلك فهو مكمن الخلاف بين الأتباع.

  وبهذا يتبيّن أنّ أعلم الناس بالحديث والأثر -سنداً ومتناً- أسعد بالصواب في كافّة أبواب العلم.

________________________________

دورات في الفقه:

شرح منهاج السالكين - المستوى الأول

شرح منهاج السالكين - المستوى الثاني

شرح كتاب الصيام

شرح المنظومة الرحبية

شرح أخصر المختصرات

 

الحواشي:

(1) «مجموع الفتاوى» (7/ 391 -392).

(2) «إعلام الموقّعين» (1/ 349).  

(3) «إعلام الموقّعين» (4/ 148 - 150)

(4) انظر «الإعلام» (2/ 226).  

مجلّة الأصالة (19/49-24)

شارك المقال