العقيدة

أهمية التَّوحيد في واقعِ المسلمين جماعاتٍ وأفراداً - ج1

  • الشيخ محمّد بدر منْسي الشيخ محمّد بدر منْسي
  • 15/10/2022
  • 3,301
أهمية التَّوحيد في واقعِ المسلمين جماعاتٍ وأفراداً - ج1

 قال الله جلَّ ثناؤه: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ،

وقال عزَّ شأنه: ﴿فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ.

وقال تعالى: ﴿فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَن لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ.

وقال سبحانه: ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا.

... فهذه الآيات - وغيرها من النصوص - تدل على أنَّ أوَّل ما يجب على العاقل البالغ معرفته هو التوحيد، فالعلم الواجب ابتداءًا هو علم أُسِّ الدِّين الذي هو التوحيد، وهو أشرف العلوم؛ إذ شرف العلم بشرف المعلوم. وقد شهد الله لنفسه بالوحدانية، وشهدت له به ملائكته وأنبياؤه ورسله.  

قال تعالى: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ۚ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.

  فتضمّنت هذه الآية الكريمة إثبات حقيقة التوحيد والردّ على جميع طوائف الضلال، وتضمّنت أجلَّ شهادة وأعظمها وأعدلها وأصدقها، من أجلِّ شاهد بأجلِّ مشهود به، فشهادة الله سبحانه لنفسه بالوحدانية والقيام بالقسط تضمّنت علمه بذلك سبحانه وتكلُّمه به وإعلامه وإخباره لخلقه به وأمرهم وإلزامهم به (1).

  والغرض من بعثة كل نبي هو توحيد الله في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، قال تعالى: ﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ ۖ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ.

   وهو أوَّل ما يدعون إليه ويأمرون به: ﴿يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ.

   وإنَّ الشرك ومظاهره هو أوَّل ما ينكره الأنبياء والمرسلون ويحذرون منه وينهون أقوامهم عنه، وهو أوَّل المحرمات، كما قال تعالى: ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ۖ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا.

   وخطره عظيم جدّاً فلا يساويه ذنب كما قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ ۖ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ، وقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ.

  وأكمل الناس توحيداً الأنبياء والُمرسَلون صلوات الله عليهم أجمعين، ولا توحيد أكمل من الذي قامت به الرسل ودعوا إليه وجاهدوا الأمم عليه، فكان مفتاحَ دعوتهم وزبدةَ رسالتهم، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ.

   ولهذا أمر اللهُ سبحانه نبيَّه محمداً -صلى الله عليه وسلم- أن يقتدي بهم في ذلك، فقال تعالى: ﴿أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۖ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ.

   فبدأ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- دعوته بالتوحيد، وهذه أطوار بعثته -صلى الله عليه وسلم- كلُّها لم تَخْلُ من إعلان التوحيد وشواهده، ومحاربة الشرك ومظاهره.

  «فلا ترك النَّبي -صلى الله عليه وسلم- التنديد بالأصنام وهو وحيد، ولا ذهل عنه وهو مُحاصَرٌ بالشِّعب ثلاث سنوات شديدات، ولا نسيه وهو مُتَخفٍّ في هجرته والعدو مشتدٌّ في طلبه، ولا قطع الحديث عنه وهو ظاهر بمدينته بين أنصاره، ولا أغْلَقَ باب الخوض فيه بعد فتح مكة، ولا شُغل عنه وهو يجاهد وينتصر ويَكُرُّ ولا يفرُّ، ولا اكتفى بطلب البيعة على القتال عن تكرير عرض البيعة على التوحيد ونبذ الشرك». (2)

   وكان آخر أمره صلى الله عليه وسلّم - أيضا - التذكير بالتوحيد والتحذير من الشرك، فعن عائشة وابن عباس رضي الله عنهم أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم لمّا حضرته الوفاة جعل يلقي على وجهه طرف خميصة له، فإذا اغتمَّ كشفها عن وجهه وهو يقول: «لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجداً».

   قالت عائشة رضي الله عنها: «يُحَذِّرُ مثل الذي صنعوا» (3).

   قلت: ويقال هنا مثل ما قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: «ُيحَذِّرُ مثل الذي صنعوا».

    بل جاء النهي صريحاً في حديث جُندُب بن عبد الله البَجَلي رضي الله عنه أنَّه سمع النَّبي -صلى الله عليه وسلّم- قبل أن يموت بخمس وهو يقول: «قد كان لي فيكم أخوة وأصدقاء وإنِّي أبرأ إلى الله أن يكون لي فيكم خليل، وإنَّ الله عزَّ وجلّ قد اتخذَني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ألَا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك» (4).

   فهذا اهتمام بالغ بالعقيدة وقضايا التوحيد، وما ذلك إلّا لكون حاجة العباد إليه فوق كل حاجة، وضرورتهم إليه فوق كل ضرورة، لأنَّه لا حياة للقلوب ولا نعيم ولا طمأنينة إلّا بأن تعرف ربها ومعبودها وفاطرها بأسمائه وصفاته وأفعاله؛ معرفةً علميةً حقَّةً، تُدنيهم من رحمته، وتُقرِّبهم من عَفوهِ ومغفرتِه.

   وهذه العناية بالتوحيد تدل على أنَّ جناية الشرك أفظع جناية، وأن وقاية المجتمع منه أمنع وقاية، وعلى العبد أن يسعى فيما يُقَرِّبُه إلى سيده ومولاه دون غيره ممّا سواه من سائر خلقه مُتذّلِّلاً لربه خاضعاً له، وأنَّه أحب إليه مما سواه.

   إذ أوَّل واجب يجب على المكلف شهادة أنْ لا إلهَ إلّا الله وأنَّ محمداً رسولُ الله، فالتوحيد أوّل ما يدخل به في الإسلام وهو آخر ما يخرج به من الدنيا، كما قال النَّبي صلى الله عليه وسلّم: «من كان آخر كلامه لا إلهَ إلّا الله دخل الجنة» (5).

   فالتوحيد أوَّل الأمر وآخره، ومن رغب عنه فهو من أسفه السفهاء، قال تعالى: ﴿وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ؛ وملة إبراهيم عليه السلام التوحيد، وأول دعوة الرسل، وأول منازل الطريق، وأول مقام يقوم فيه السالك إلى الله عزَّ وجل هو التوحيد.

   والسفيه من رغب عن هذا، وما أكثر سفهاء اليوم من المنكرين لهذا المبدأ النَّبويِّ السَّلفي العظيم!

   لقد اشتكى الناس اليوم كثرة الظلم وتشعُّبه -على مختلف طبقاتهم ويَنشُدون طوق النجاة من هذا الاستبداد إلى العدل فنقول لهم:

   إنَّ الله سبحانه وتعالى أرسل رسوله، وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط، قال تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ.

   وأعظم القسط التوحيد وهو رأس العدل وقوامه، وهو محض حق الله على جميع العباد، ومن أجله جُرِّدَت سيوف الجهاد، وسُيِّرت جحافلُ الجيوش.

   وأعظم الظلم الشرك؛ قال تعالى: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ فالتوحيد أعدل العدل، والشرك أظلم الظلم.

   وما أكثر الظالمين القائلين بغير علم، الضالّين عن منهج الأنبياء والمرسلين بالتأويل والرأي:

   فمن قائل: إنَّ الكلام في التوحيد يفرق بين المسلمين، ونحن بحاجة إلى لمِّ الشعث، وجع الكلمة، وتوحيد الصف!

   ومن قائل: أولاً تتألَّف الناس وتتكلم فيما يحبون حتى لا ينفروا منا ومن دعوتنا!

   ومن قائل: ليس من الشرط أن ندعو إلى التوحيد ابتداء وبالتصريح جهاراً، ليلاً ونهاراً، وإنما يمكن الدعوة إليه بآٍثاره ومكمّلاته!

   ومن قائل: إنَّ المسلم يعود إلى التوحيد بفطرته، فهو يأتي تبعاً بعد أن نفجِّر في قلبه الإيمان، وتظهر ما أودعه الله فيهم من وازع ديني!

   ومن قائل: لا يوجد شرك؛ فالمسلمون يشهدون أنْ لا إلهَ إلّا الله وأنَّ محمداً رسول الله، ويصلون، ويصومون، ويحجون ... إلخ

   إلى غير ذلك من الأقاويل الفاشلة التي تدل على جهلِ مُرَكَّبِ بالإسلام وبنواقضه، وغفلةِ عن واقع المسلمين حالهم المتردّي، وانعدام الشفقة والرحمة عليهم، وهم البؤساء في عدم الاهتمام بما يصلح حالهم وما يصلح به مآلهم.

 _________________________________

الحواشي:

(1)  انظر «شرح العقيدة الطحاوية» (ص84).

(2)  انظر رسالة «الشرك ومظاهره ...» (ص19) لمبارك الميلي.

(3)  رواه الشيخان وغيرهما.

(4)  رواه مسلم وغيره.

(5)  رواه أبو داود وأحمد وغيرهما عن معاذ رضي الله عنه.

(...للبحثِ صِلَةٌ)

مجلّة الأصالة (13/5-18)

شارك المقال