المنهجية في طلب العلم

قبضُ العِلم وأثره

  • الشيخ د. حسين بن عودة العوايشة الشيخ د. حسين بن عودة العوايشة
  • 13/11/2022
  • 360
قبضُ العِلم وأثره

   عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «إنَّ الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد؛ ولكن يقبض العلم بقبض العلماء؛ حتى إذا لم يُبقِ عالماً اتَّخذَ النَّاسُ رؤوساً جُهّالاً؛ فسُئِلوا فأفتوا بغير علم؛ فضلُّوا وأضلُّوا»(1).

   في هذا الحديث بيان أهميَّة العلماء، وخطر ذهابهم، وفيه بيان كيف يُقبض العِلم، وأنَّ عدم معرفة النصوص لا تسوِّغ للإنسان أن يُفتي بغير عِلم؛ بزعم المصلحة، أو التيسير، أو أنَّه يجتهد رأيه!!

   وفيه اجتناب الرَّأي والقياس إذا وَرَد النَّصُّ، وقد أحسَن ابن ماجه - رحمه الله - حين بَوَّب في «الُّسنن» على هذا الحديث بقوله: «باب اجتناب الرَّأي والقياس».

   ومن المهمّ جداً أن نعلم أنَّ هنالك مَن أدرَك هذه الحقيقة؛ فذهب يكيد للعلماء ويكيل لهم الاتهامات؛ لهدم المنهج الحق الذي عليه يسيرون، وعلى رأس هؤلاء المفسدين الرافضةُ؛ فإنَّهم كَفَّروا الصحابة - رضي الله عنهم - إلّا ثلاثة، وذلك لعدم اعتمادهم كتابَ الله تعالى وسُنَّة رسول الله -صلى الله عليه وسلّم-، إذ هم رضي الله عنهم النَّاقلون لنا أحاديثه -صلى الله عليه وسلّم- وسُنَّنه وسيرته.

   وما أكثر ما يلجأ الكثير للطعن بسلوك عالم أو طالب علم؛ ليّصرِفوا قلوب النَّاس ووجوههم عنه!!

   إنَّ قبض العلماء قبضٌ للعلم، وحياة العلماء حياةٌ للعلم، ولو أنَّ شخصاً طعن في ستة أشخاص كأمثال البخاري ومسلم وأبي داود والنسائي والترمذي وابن ماجه، وقال: أحبُّ كتاب الله وسنَّة رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- ولكني لا أثق بهؤلاء!

   فإننا نقول له: كذبت، لقد أردت بقولك هذا هدم الدين -عياذاً بالله تعالى- لأنَّ الله تعالى حفظ لنا الدين برجال صادقين من أولي العزم والنُّهى، فحبُّنا لهم حبٌّ للدين، وطَعنُك فيهم طعن في الدين نسأل الله المعافاة.

  ولقد أدرك الخليفة الخامس عمر بن عبد العزيز رحمه الله هذه الأبعاد الخطيرة؛ فتأمل معي - رحمك الله - ما جاء في «صحيح البخاري» (1/36).

(باب كيف يقبض العلم):

«وكتَب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن حزم: أُنظر ما كان من حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلّم - فاكتبه؛ فإني خِفت دُروس العلم وذهاب العلماء، ولا تقبَل إلّا حديث النَّبِي -صلى الله عليه وسلّم-، ولْتُفْشوا العلم، ولتجلسوا حتى يُعلَّم من لا يعلم، فإنَّ العلمَ لا يهلك حتى يكون سرّاً»(2).

   انظر ما كان من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلّم - فاكتبه، فالحديث هو العلم. 

 وما أجملّ أن يّرِد هذا في (كتاب العلم) من «صحيح البخاري»!

 ثم يقول - رحمه الله -: «فإني خِفت دروس العلم وذهاب العلماء».

 لماذا خاف زوال العلم وذهاب العلماء؟

 ولماذا ذكر كلمة (العلماء) بعد حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلّم -؟  

- لأنَّ حديث رسول الله – صلى الله عليه هو مادّة العلماء، فبغير الحديث لا عِلم إذن.

  فيا ليتنا نُدرك هذه الحقيقة؛ فنزِن - بهذا الميزان - الرجال الذين ليس لهم في عِير الفَهم ولا نفير العلم شيء.

  وما أكثر هؤلاء وقد تصدَّروا المجالس وصعدوا المنابر وأُشير إليهم بالبنان!

  لقد خاف - رحمه الله - ذهاب العلماء فما بالُنا قد أمِنّا ذلك؟

  ثمَّ قال رحمه الله: «ولا تقبَل إلّا حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلّم» الله الله في قول عمر.

  رَحِمك الله يا عمر؛ فإنَّ مقولتك هذه تُجسِّد واقعنا المرير وحالنا الأليم.

   ماذا لو رأيت إعراض النَّاس عن حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلّم-؛ وتعصُّبهم لأقوال الرجال؟!(3).

   ماذا لو رأيت تجميعهم النّاس وتكتيلهم على ذلك؟!

   ماذا لو رأيت وَدْعَهُم السُّنة؛ وأَخْذَهُم زبالة الأذهان وعفن الأفكار؟!

... ليتنا ندرك هذه الحقائق، فنبحث عن العالم الحقِّ ونحترمه، ونتلقَّى عنه ونأخذ منه، فإنَّ هذا العِلم دين، فلننظر عمَّن نأخذ ديننا(4)، ونتيقَّظ أيضاً لدواعي محاربة العلماء وطلاب العلم المخلصين الصادقين العاملين، ونذبُّ عنهم وننصرهم في غَيبتهم.

   «فإنَّ العلم لا يهلك حتى يكون سرّاً».

   لقد بيَّن عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - متى يكون الهلاك ... حتى يكون سِرّاً، حين لا يفشو حديث رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- ... حين ندعُه ونأخذ حديث زيد وعمرو وفلان وعلاّن!!

   إنَّ السريَّة في العلم الصحيح مهلكة للأمَّة؛ فكيف إذا كانت هذه السريَّة في غير ذلك مِن حزبيّات وانحرافاتٍ؟!

 _______________________________

الحواشي:

(1) رواه البخاري (100) ومسلم (2673) وغيرهما.

(2) رواه البخاري معلقاً بصيغة الجزم، وبعضه موصول في روايات أخرى، ووصله أبو نعيم في «أخبار أصبهان» بنحوه؛ كما ذكر الحافظ في «الفتح» (1/194).

(3) يحسُن بنا أن نفرِّق بين اتخاذ أقوال الرجال ديناَ، والاستفادة منهم في فهم الكتاب والسُّنة.

(4) مُستقى من قول التَّابعيّ الجليل محمد بن سيرين - رحمه الله – «إنَّ هذا العِلم دين؛ فانظروا عمَّن تأخذون دينكم». رواه مسلم في المقدِّمة (1/14).

مجلَّة الأصالة (31/5-33)

شارك المقال