العقيدة

أهميَّة التَّوحيد في حياة المسلمين جماعاتِ وأفراداً - ج2

  • الشيخ محمّد بدر منْسي الشيخ محمّد بدر منْسي
  • 13/11/2022
  • 429
أهميَّة التَّوحيد في حياة المسلمين جماعاتِ وأفراداً - ج2

   في المقالة السابقة بَيَّنّا أنَّ التوحيد هو الدافع وراء كلِّ سلوكٍ رشيد، وفي هذه المقالة نبين أنَّه الضابطُ لكلِّ سلوكٍ في الأفراد والجماعات.

 فلا اجتماع على غير التوحيد، ولا طريق إلّا طريق الأنبياء والمرسلين، فهم أهدى طريقاً، وأقوم قيلاً، ولا يجوزُ العدولُ عن منهجهم إلى منهج الخُلوف، ولا العدول عن الأصل إلى الفرع.

وما صحَّ فرعٌ أصلُه الدَّهرَ فاسدٌ          ولكن يصحُّ الفرعُ ما صحَّ أصلُه 

   أما كون الشرك لا يقع في الأمة، أو أنَّه غير واقع، فكلام باطل، والواقع يكذبه، وقد قال تعالى:﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ، وقال النَّبي – صلى الله عليه وسلّم-: «لا تقوم الساعة حتى تلحق قبائل من أمتي بالمشركين وحتى تعبد الأوثان ... »(1).

   وقال الأستاذ محمد العيد آل خليفة (2):

واحذر شراك الشرك فهي كثيرة     شتى المـظـــاهر جمة الأنــواع

كـــم واقع فيهـــا ويحسب أنَّــــه     في الـدين حر العقد رحب الباع

الشرك داء في البـــريــة كــامن     مستفحــلُ الأضرارِ والأوجــاع

الشركُ سِترٌ حِيكَ من نسج الهــوى     غطّى على الأبصار والأسماع

فاقبس من التوحيــــد أعظم جذوة      وتَمَــشَّ تحت ضيائها اللَّمــــاعِ

   «وإنَّ عقيدة التوحيد بالنسبة لجميع شرائع الأنبياء بمن فيهم خاتم الأنبياء -عليه الصَّلاة والسَّلام- كالأساس للبناء، فلا قيام للبناء إلّا بالأساس، وكالأصل، للشجرة فلا قيام ولا حياة للشجرة إلا بأصلها، وكالروح للجسد فلا قيام ولا حياة للجسد إلّا بالروح، وبهذه المقاييس العقلية والشرعية يجب أن يقيس العاقلُ الدعوات، ليعرف منها ما هو على جادة الأنبياء وما هو بعيدٌ عنها» (3).

«إنَّ الله سبحانه وتعالى لم يكلفهم إقامة دول وإسقاط أخرى، لأنَّ مثل هذا يحصل تبعاً لأمر التوحيد تحقيقاً لوعد الله تعالى لعباده المؤمنين الموحدين الذين عملوا الصالحات ولم يشرِكوا بالله شيئاً، كما قال تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ ... إلى قوله سبحانه: ﴿...يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًاً.

   وذلك في غاية الحكمة، لأن الدعوة إلى إقامة دولة تلوح فيها المطامع لطلاب الدنيا، وطلاب الجاه والمناصب، وأصحاب الأغراض والأحقاد، وأصحاب التطلُّعات والطموحات، فما أسرع ما تستجيب هذه الأصناف للدعوة إلى قيام دولة يرون فيها تحقيق مآربهم وشهواتهم ومطامعهم.

    لمثل هذه الاعتبارات - والله أعلم - وغيرها مما يعلمه الخلّاق العليم الحكيم ابتعدت دعوات الأنبياء ومناهجهم عن استخدام هذا الشعار البرّاق الملوِّح أو المصرِّح بالأطماع والشهوات العاجلة، وسلكت منهجاً حكيماً نزيهاً شريفاً ينطوي على الابتلاء والاختبار، فيتبعهم ويؤمن بهم كل صادق مخلص متجرِّد من كل المطامع والأغراض الشخصية لا يريد بإيمانه وتوحيده وطاعة رسل الله - عليهم الصَّلاة والسَّلام - إلا الجنَّة ومرضاة ربّه، ولا يخاف إلّا من غضبه وأليم عقابه، ولهذا لا يتبعهم في الغالب إلّا الفقراء والمساكين والضعفاء» (4).

    «فكانت دعوات الأنبياء تحمل في دعواتها كل خير، وتحذر من كل شر؛ فنجد فيما قص الله علينا في كتابه وفي دراستنا لسنَّة وسيرة نبينا محمد – صلى الله عليه وسلّم- أنَّ دعوتهم إلى التوحيد ومحاربة الشرك ومظاهره وأسبابه ووسائله قد أخذت ساحة كبيرة جدّاً من دعوتهم، واستغرقت زمناً طويلاً من حياتهم حتى كأنّما كان هذا الجانب هو شغلهم الشاغل.

    وأما موقفهم من الحكّام الطّغاة والمستبدّين فإنَّه يأتي في المرتبة الثانية؛ لأنَّ الشرك أعظم الظلم، ولأنَّ مقصدهم هو تعبيد الناس لربهم سبحانه وتعالى» (5).

  «والله سبحانه وتعالى أخبر أن الحاكمية، والسلطة لا تتحقق إلّا بعد تصحيح العقيدة بعبادة الله وحده، وترك عبادة ما سواه كما في آية الاستخلاف من سورة النور.

   وهؤلاء يريدون قيام دولة إسلامية قبل تطهير بلادهم من العقائد الوثنية المتمثلة في عبادة الموتى والتعلق بالأضرحة بما لا يختلف عن عبادة اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، بل تزيد عليها، إنهم يحاولون محالاً:

ومن طلب العلا من غير كدٍّ       أضاع العمر في طلب المحال

      إنَّ تحكيم الشريعة وإقامة الدولة الإسلامية واجتناب المحرمات وفعل الواجبات كل هذه الأمور من حقوق التوحيد ومكملاته، وهي تابعة له، فكيف يُعتنى بالتابع ويهمل الأصل؟ (6).

   قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾. 

     «هذا النَّبي الحكيم الرشيد واجه فساداً في العقيدة وفساداً في الحكم، أمة انحط تفكيرها وضلّت عقولها فعبدت الأصنام من الأخشاب والأحجار والكواكب، وتحكمها حكومة فاسدة يقودها جبار متأله، فأرسلوا له القياد، فمن أين يبدأ بالإصلاح يا ترى؟

     أيبدأ بمصاولة الحاكم؛ لأنَّه قطعاً يحكم بغير شريعة الله، ويحكم بقوانين وتشريعات جاهلية لا شك في ذلك، ويدعي الربوبية جهاراً وحق التشريع، أو يبدأ بإصلاح العقيدة عقيدة الأمة وعقيدة الحكومة الجاهلية؟

     القرآن يحدثنا عن هذا النَّبي الرشيد إمام الأنبياء أنَّه بدأ اصلاح العقيدة، أي: الدعوة إلى توحيد الله، وإخلاص العبادة له وحده، ومحاربة الشرك والقضاء عليه وعلى أسبابه واقتلاعه من جذوره» (7).

    «وفي هذا رد حاسم على من يهّون من أمر عقيدة التوحيد، ويجامل ويداجي في قضية الشرك الذي ملأ الدنيا، وينظر إلى دعاة التوحيد وأعداء الشرك بعين الاحتقار والازدراء، ويربأ بنفسه ويشمخ بأنفه أن يهبط إلى مستوى دعاة التوحيد وهو من دهاة السياسة، وما أثقل على سمعه وقلبه أن يسمع أو يقول كلمة توحيد أو شرك! (7).

   «وإنِّي أقول للقائمين على هذه الجماعات الإسلامية الدعوية: اتَّقوا اللهَ في من سلّموكم قيادهم، وحكموكم في مصيرهم، فقودوهم إلى الخير، وخذوا بأيديهم إلى طريق الهدى والرشاد، وعليكم بالمنهج الحق الذي بعث الله به نبيه محمداً – صلى الله عليه وسلّم -؛ وهو الانطلاق في الدعوة من الأساس المتين والركن الركين أولاً وهو توحيد الله الخالص والخالي من شوائب الشرك والبدع والمعاصي، وإنَّ أية دعوة تبنى على غير هذا الأساس فمصيرها إلى الفشل الذريع لا محالة» (8).  

 _________________________

الحواشي:

(1) حديثٌ صحيحٌ رواه أصحاب «السنن» إلّا النسائي عن ثوبان رضي الله عنه.

(2)  كما في «الشرك ومظاهره» لمبارك الميلي (ص9).

(3) «منهج الأنبياء»، للشيخ ربيع بن هادي ( ص96 ).

(4) المصدر السابق، (ص79) بتصرّف.

(5) المصدر السابق نفسه (ص74) بتصرّف يسير جداً.

(6) بتصرف من مقدمة الشيخ صالح الفوزان لكتاب: «منهج الأنبياء» للشيخ ربيع بن هادي.

(7) «منهج الانبياء» للشيخ ربيع بن هادي (ص40،46).

(8) من كلام الشيخ صالح السحيمي في كتابه «تنبيه أولي الأبصار ...» (ص245).

مجلَّة الأصالة (17/6-20)

شارك المقال